لم تكن الحركة الصهيونية، قبل المؤتمر الصهيوني الرسمي الأول الذي عُقد في مدينة "بال" السويسرية عام 1897م، وتولّى تيودور هرتزل زعامتها، قد تبلورت بعد كحركة سياسية تدّعي تمثيل الشعب اليهودي، الذي يسعى للظهور كشعب موحّد القومية، ولاعب فاعل على الساحة الدولية، وظلّت تلك الحركة مجرّد حركة يهودية أوروبية المنشأ، ظهرت في أوائل ثمانينات القرن الثامن عشر، غايتها العامة الهجرة إلى فلسطين بحجة "العودة" إليها بدوافع دينية أو دنيوية أو خليطة بينها، بهدف استيطانها، أملاً بيوم آتٍ يتم فيه إعادة تأسيس الدولة اليهودية المزعومة فيها. ولتحقيق هذا الهدف عملت الحركة الصهيونية على محورين: الأول: العمل على إقناع اليهود، من أنحاء العالم، بالسفر إلى فلسطين. واستخدم الصهاينة أسلوبي الترهيب والترغيب لجعل الجاليات اليهودية الموزعة على دول العالم تأتي إلى فلسطين لتقيم المستوطنات وتقضم الأراضي العربية شيئاً فشيئاً. الثاني: التقرّب من الدول الفاعلة على الصعيد العالمي، والتأثير عليها، لعقد اتفاقيات، واستصدار وعود تعترف بوجود حق يهودي في فلسطين، وقد أصبحت الفرصة سانحة أمام الحركة الصهيونية في أوائل القرن العشرين، عندما بدأت علائم الموت تظهر على الامبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على المشرق العربي، فاستغلّ اليهود ذلك الوضع لاستصدار وعد من بريطانيا بإقامة وطني قومي لليهود في فلسطين، وهو ما عرف باسم "وعد بلفور". | |
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ونتيجة لاتفاقية سايكس، وقعت فلسطين تحت الانتداب الانكليزي المباشر، ما أعطى فرصة كبيرة لليهود بتفعيل هجرتهم إلى الأراضي الفلسطينية، حيث عملوا على إقامة عدد كبير من المستوطنات، وبدأوا تدريبات عسكرية لتشكيل عصابات سرية، تتسلح بأسلحة بريطانية، وتهاجم المواطنين العرب وتطردهم من أراضيهم.
وشيئاً فشيئاً بدأ الميزان السكاني والعسكري يميل لصالح اليهود الذين كانوا يخططون للسيطرة على "أرض الميعاد" كما يزعمون.
في العام 1937م ظهرت فكرة تقسيم فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية، وقد اقترح التقسيم لجنة تحقيق أرسلتها الحكومة البريطانية إلى فلسطين عقب اندلاع ثورة فلسطينية ضد الحكم البريطاني عام 1936م بعد أن طفح الكيل من ارتفاع معدلات الهجرة اليهودية الجماعية بحماية بريطانية ارتفاعاً خطيراً..
ورداً على هذا الاقتراح علا لهيب الثورة وسقطت أجزاء مهمة من البلاد في يد المجاهدين، بما فيها القدس القديمة وبئر السبع واضطرت بريطانيا إلى التعبئة الجزئية لقواتها، وأرسلت خيرة قادتها للسيطرة على الوضع في فلسطين، فتمكّنت من قمع الثورة بوحشية بالغة أسفرت عن سقوط حوالي سبعة آلاف شهيد، وعشرين ألف جريح وحوالي خمسين ألف متعقل. | |
ولم تكتفِ بريطانيا بذلك، بل عمدت إلى حل جميع التنظيمات السياسية الفلسطينية، وطبقت عليها خطة محكمة لنـزع سلاحها، وفي المقابل تغاضت بريطانيا كلياً عن وجود القوات الصهيونية المنتمية إلى عصابات "الهاغاناه" بل على العكس، أخذت تدعمها وتدربها وتزيد عديدها.
بعد ذلك صدرت عدة دعوات لتقسيم فلسطين، وأشهرها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947م، ولم يمض أسبوع على هذا القرار الأخير حتى أعلنت بريطانيا في 8/12/1947م، أنها ستسحب إدارتها المدنية وجيوشها من فلسطين، لتنهي انتدابها عليها نهائياً في 15 أيار/ مايو 1948، وبذلك حددت "ساعة الصفر" للأطراف كلها خلال الأشهر الخمسة المتبقية من عهدها.
ردّت الدول العربية على ذلك بدعوة عرب فلسطين إلى الإضراب العام ثلاثة أيام احتجاجاً على قرار التقسيم، لكن النفوس معبأة، والمشاعر مشحونة عند الطرفين.. ما جعل نطاق المناوشات يتعاظم لتتحول إلى اقتتال واسع.. استدعى تدخلاً من الدول العربية.
عرفت المرحلة الأولى من الحرب باسم "الحرب غير النظامية" بين القوات الصهيونية، من جهة، والقوات الفلسطينية الشعبية المدعومة لاحقاً بمتطوعين من الدول العربية، انتظموا في ما سمّي "جيش الانقاذ" الذي أشرفت عليه الجامعة العربية، وهي فترة امتدت من 29/11/1947م، لغاية 15 أيار/ مايو 1948م، حين انتهى "رسمياً" الانتداب البريطاني على فلسطين وانسحاب القوات البريطانية من البلاد، الأمر الذي استغلته الحركة الصهيونية لتعلن قيام "دولة إسرائيل" في فلسطين.
استفزّ إعلان دويلة الكيان الصهيوني الدول العربية ودعاها إلى التدخل في مرحلة أخيرة من الحرب عرفت باسم "مرحلة الحرب النظامية" بين قوات "دولة إسرائيل" وجيوش عربية أرسلتها سورية ولبنان ومصر والعراق وشرق الأردن بإشراف الجامعة العربية، وامتدّت هذه الحرب من 15 أيار/ مايو 1948م إلى أن تمّ التوقيع على اتفاقية الهدنة في أواخر عام 1948م وأوائل عام 1949 بين "إسرائيل" من ناحية وكل من مصر وشرق الأردن ولبنان وسورية من الناحية الأخرى.
...وهكذا تحوّلت فلسطين إلى جرح عميق في قلب الأمة العربية، فأدماها وقسمها الاحتلال إلى شطرين، وأُضيفت نكبة فلسطين إلى النكبات الأليمة التي تصيب العرب منذ عدة قرون، ونتجت عنها مآس عديدة أصابت الدول العربية المجاورة التي طاولتها الاعتداءات الصهيونية.. ولكن الشعب الفلسطيني بقي شعباً حياً يناضل ويعمل على تحرير أرضه رغم ضعف إمكانياته ومقدراته
عبر انتفاضاته المتواصلة.